فصل: ** دَعَج (مفرد):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معجم اللغة العربية المعاصرة



.تفسير الآية رقم (22):

{تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}
{تِلْكَ} إشارةٌ إلى القسمةِ المنفهمةِ من الجملةِ الاستفهاميةِ {إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} أي جائرةً حيثُ جعلتُم له تعالَى ما تستنكفونَ منه وهي فُعْلَى من الضيزِ وهُو الجورُ لكنَّه كُسرَ فاؤُه لتسلمَ الياءُ كما فُعلَ في بِيْضٍ فإنَّ فِعْلى بالكسرِ لم يأتِ في الوصفِ، وقرئ: {ضئْزَى} بالهمزةِ من ضأَزَهُ إذا ظلمَهُ على أنه مصدرٌ نُعتَ. وقرئ: {ضَيزى} إما على أنه مصدرٌ وصف به كدعوى أو على أنه صفة كسَكْرى وعطشى.

.تفسير الآيات (23- 25):

{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25)}
{إِنْ هِىَ} الضميرُ للأصنامِ أيْ ما الأصنامُ باعتبار الألوهيةِ التي يدَّعُونها {إِلاَّ أَسْمَاء} محضةٌ ليسَ تحتَها مما تنبىءُ هي عنْهُ من معَنْى الألوهيةِ شيءٌ ما أصلاً. وقوله تعالى: {سَمَّيْتُمُوهَا} صفة لأسماء وضميرها لها لا للأصنام والمعَنْى جعلتمُوها أسماءً لا جعلتُم لها أسماءً فإنَّ التسميةَ نسبةً بين الاسمِ والمُسمَّى فإذا قيستْ إلى الإسمِ فمعناهَا جعلُه إسماً للمسمَّى وإن قيستْ إلى المسمَّى فمعناهَا جعلُه مسمَّى للإسمِ، وإنما اختيرَ هاهنا المعَنْى الأولُ من غيرِ تعرضٍ للمسمَّى لتحقيق أن تلكَ الأصنامَ التي يسمُّونها آلهةً أسماءً مجردةٌ ليسَ لها مسمياتٌ قطعاً كما في قولِه تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} الآيةَ لا أنَّ هناكَ مسمياتٍ لكنَّها لا تستحقُ التسميةَ وقيلَ هي للأسماءِ الثلاثةِ المذكورةِ حيثُ كانُوا يطلقونَها على تلك الأصنامِ لاعتقادِهم أنَّها تستحقُّ العكوفَ على عبادتِها والإعزازَ والتقربَ إليها بالقرابينِ وأنتَ خبيرٌ بأنَّه لو سُلِّم دلالةُ الأسماءِ المذكورةِ على ثبوبِ تلك المعانِي الخاصَّةِ للأصنامِ فليسَ في سلبِها عنها مزيدُ فائدةٍ بل إنَّما يه في سلبِ الألوهيةِ عنها كما هو زعمُهم المشهورُ في حقِّ جميعِ الأصنامِ على وجهٍ برهانيَ، فإنَّ انتفاءَ الموصوفِ يقتضِي انتفاءَ الوصفِ بطريقِ الأولويةِ أيْ ما هيَ إلا أسماءٌ خاليةٌ عنِ المسمياتِ وضمعتُموها {أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ} بمقتضَى أهوائِكم الباطلةِ {مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان} برهانٍ تتعلقونَ به {إِن يَتَّبِعُونَ} التفاتٌ إلى الغَيبةِ للإيذانِ بأنَّ تعدادَ قبائحِهم اقتضَى الإعراضَ عنهم وحكايةَ جناياتِهم لغيرِهم أي ما يتبعونَ فيما ذُكرَ من التسميةِ والعملِ بموجِبها {إِلاَّ الظن} إلا توهَم أَن ما هُم عليهِ حقٌّ توهماً باطلاً {وَمَا تَهْوَى الأنفس} أي تشتهيِه أنفسُهم الأمارةُ بالسُّوءِ {وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى} قيلَ هي حالٌ من فاعلِ يتبعونَ أو اعتراضٌ وأياً ما كان ففيهِ تأكيدٌ لبطلانِ اتباعِ الظنِّ وهو النفسُ وزيادةُ تقبيحٍ لحالِهم فإنَّ ابتاعَهما من أيِّ شخصٍ كان قبيحٌ وممن هداهُ الله تعالَى بإرسالِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وإنزالِ الكتابِ أقبحُ.
{أَمْ للإنسان مَا تمنى} أمْ منقطعةٌ وما فيَها من بلْ للانتقالِ من بيانِ أنَّ ما هُم عليهِ غيرُ مستندٍ إلا إلى توهمِهم وهَوَى أنفسِهم إلى بيانِ أنَّ ذلكَ ممَّا لا يُجدي نفعاً أصلاً. والهمزةُ للإنكارِ والنَّفي، أي ليسَ للإنسانِ كلُّ ما يتمنَّاهُ وتشتهيِه نفُسه من الأمورِ التي من جُمْلتِها أطماعُهم الفارغةُ في شفاعةِ الآلهةِ ونظائرِها التي لا تكادُ تدخلُ تحتَ الوجودِ {فَلِلَّهِ الأخرة والأولى} تعليلٌ لانتفاءِ أنْ يكونَ للإنسانِ ما يتمنَّاهُ حتماً فإنَّ اختصاصَ أمورِ الآخرةِ والأُولى جميعاً بهِ تعالى مقتضٍ لانتفاءِ أن يكونَ له أمرٌ من الأمور.

.تفسير الآيات (26- 29):

{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)}
وقولُه تعالى: {وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِي السموات لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئاً} إقناطٌ لهم عمَّا علَّقُوا به أطماعَهم من شفاعةِ الملائكةِ لهم موجبٌ لإقناطِهم من شفاعةِ الأصنامِ بطريقِ الأولويةِ وكم خبريةٌ مفيدةٌ للتكثيرِ محلُّها الرفعُ على الابتداءِ، والخبرُ هي الجملةُ المنفيةُ وجمعُ الضميرِ في شفاعتِهم مع إفرادِ المَلكِ باعتبارِ المَعْنى أي وكثيرٌ من الملائكةِ لا تُغني شفاعتُهم عند الله تعالى شيئاً من الإغناءِ في وقتٍ من الأوقاتِ {إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله} لهمُ في الشفاعةِ {لِمَن يَشَاء} إنْ يشفعوا له {ويرضى} ويراهُ أهلاً للشفاعةِ من أهلِ التوحيدِ والإيمانِ، وأمَّا من عداهُم من أهلِ الكفرِ والطغيانِ فهمُ من إذنِ الله تعالى بمعزلٍ من الشفاعةِ بألفِ منزلٍ، فإذا كانَ حالُ الملائكةِ في بابِ الشفاعةِ كما ذُكِرَ فما ظنُّهم بحالِ الأصنامِ {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} وبما فيها من العقابِ على ما يتعاطَونه من الكفرِ والمعاصي {لَيُسَمُّونَ الملائكة} المنزهينَ عن سماتِ النقصانِ على الإطلاقِ أي يسمون كلَّ واحدٍ منهم {تَسْمِيَةَ الأنثى} فإن قولَهم الملائكةُ بناتُ الله قولُ منهُم بأنَّ كلاً منهم بنتُه سبحانَهُ، وهي التسميةُ بالأُنثى، وفي تعليقِها بعدمِ الإيمانِ بالآخرةِ إشعارٌ بأنَّها في الشناعةِ والفظاعةِ واستتباعِ العقوبةِ في الآخرةِ بحيثُ لا يجترىءُ عليها إلا مَنْ لا يؤمنُ بَها رأساً. وقولُه تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} حالٌ من فاعِل يسمُّون أي يسمونَهم والحالُ أنَّه لا علمَ لهم بما يقولونَ أصلاً. وقرئ: {بَها} أي بالملائكةِ أو بالتسميةِ. {إِن يَتَّبِعُونَ} في ذلكَ {إِلاَّ الظن} الفاسدَ {وَإِنَّ الظن} أي جنسَ الظنِّ كما يلوحُ به الإظهارُ في موقعِ الإضمارِ {لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا} من الإغناءِ، فإن الحقَّ الذي هو عبارةٌ عن حقيقةِ الشيءِ لا يُدرك إلا بالعلمِ، والظنُّ لا اعتدادَ به في شأنِ المعارفِ الحقيقيةِ وإنما يعتدُّ به في العملياتِ وما يؤدِّي إليها. {فَأَعْرَضَ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} أي عنْهم. ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتوسلِ بهِ، أي وصفُهم بما في حيزِ صلتِه من الأوصافِ القبيحةِ وتعليلِ الحكمِ بهَا أيْ فأعرضْ عمَّن أعرضَ عن ذكرِنا المفيدِ للعلمِ اليقينيِّ وهو القُرآنُ المُنطوي عَلى علومِ الأولينَ والآخرينَ المذكرِ لأمورِ الآخرةِ أو عن ذكرِنا كما ينبغِي فإنَّ ذلكَ مستتبعٌ لذكرِ الآخرة وما فيها من الأمور المرغوبِ فيها والمرهوبِ عنَها. {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا} راضياً بها قاصراً نظرَهُ عليها، والمرادُ النهيُ عن دعوتِه والاعتناءُ بشأنِه فإنَّ من أعرضَ عمَّا ذُكرَ وانهمكَ في الدُّنيا بحيثُ كانتْ هي مُنتهَى همتِه وقُصارَى سعيِه لا تزيدُه الدعوةُ إلى خلافِها إلا عناداً وإصراراً على الباطلِ.

.تفسير الآيات (30- 31):

{ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)}
{ذلك} أي ما أدَّاهم فيهِ من التولِّي وقصْرِ الإرادةِ على الحياةِ الدُّنيا {مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم} لا يكادونَ يجاوزونَهُ إلى غيرهِ حتَّى تُجديهم الدعوةُ والإرشادُ وجمعُ الضميرِ في مبلغُهم باعتبارِ مَعْنى مَنْ كَما أنَّ إفراده فيمَا سبقَ باعتبارِ لفظِها، والمرادُ بالعلمِ مطلقُ الإدراكِ المنتظمِ للظنِّ الفاسدِ والجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبلَها من قصرِ الإرادةِ على الحياةِ الدُّنيا. وقولُه تعالَى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى} تعليلٌ للأمرِ بالإعراضِ وتكريرُ قولِه تعالى هو أعلمُ لزيادةِ التقريرِ والإيذانِ بكمالِ تباينِ المعلومَينِ والمرادُ بمَنْ ضَلَّ منْ أصرَّ عليهِ ولم يرجعُ إلى الهُدَى أصلاً وبمَنْ اهتدَى مَنْ شأنُه الاهتداءُ في الجملةِ أي هو المبالغُ في العلمِ بمن لا يرعوِي عنِ الضلالِ أبداً وبمن يقبلُ الاهتداءَ في الجملةِ لا غيرُه فلا تُتعبْ نفسَك في دعوتِهم فإنَّهم من القبيلِ الأولِ، وفي تعليلِ الأمرِ بإعراضِه عليهِ السلامُ عن الاعتناءِ بأمرِهم باقتصارِ العلمِ بأحوالِ الفريقينِ عليهِ تعالَى رمزٌ إلى أنَّه تعالَى يعاملُهم بموجبِ علمِه بهم فيجزى كلاً منْهم بما يليقُ بهِ من الجزاءِ ففيهِ وعيدٌ ووعدٌ ضِمناً كما سيأتي صَريحاً.
{وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} أي خَلقاً ومُلكاً لا لغيرِه أصلاً لا استقلالاً ولا اشتراكاً. وقوله تعالى: {لِيَجْزِىَ} إلخ متعلقٌ بما دلَّ عليهِ أعلمُ إلخ وما بينهما اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَهُ فإنَّ كونَ الكُلِّ مخلوقاً له تعالى ممَّا يقررُ علمَهُ تعالَى بأحوالِهم {ألا يعلمُ منْ خلقَ} كأنَّه قيلَ فيعلمُ ضلالَ من ضلَّ واهتداءَ من اهتدَى ويحفظُهما ليجزيَ {الذين أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ} أي بعقابِ ما عملُوا من الضلالِ الذي عبَّر عنْهُ بالإساءةِ بياناً لحالهِ أو بسببِ ما عملوا.
{وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ} أي اهتدوا {بالحسنى} أي بالمثوبةِ الحْسْنَى التي هي الجنةُ أو بسببِ أعمالِهم الحُسْنَى، وقيلَ متعلقٌ بما دلَّ عليهِ قولُه تعالى: {وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} كأنَّه قيلَ خلقَ ما فيهمَا ليجزيَ الخ، وقيلَ: متعلقٌ بضلَّ واهتدَى على أن اللامَ للعاقبةِ أي هُو أعلمُ بمن ضلَّ ليؤولَ أمرُه إلى أنْ يجزيَهُ الله تعالى بعملِه وبمنِ اهتدَى ليؤولَ أمرُهُ إلى أنْ يجزيَهُ بالحُسْنَى وفيهِ من البُعدِ ما لا يَخْفى، وتكريرُ الفعلِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ الجزاءِ والتنبيهِ على تباينِ الجزاءينِ.

.تفسير الآيات (32- 35):

{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)}
{الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم} بدلٌ من الموصولِ الثَّانِي. وصيغةُ الاستقبال في صلتِه للدلالةِ على تجددِ الاجتناب واستمرارِه، أو بيانٌ أو نعتٌ أو منصوبٌ على المدحِ، وكبائرُ الإثمِ ما يكبرُ عقابُه من الذنوبِ وهو ما رتبَ عليه الوعيدُ بخصوصِه. وقرئ: {كبيرَ الإثمِ}، على إرادةِ الجنسِ أو الشركِ {والفواحش} وما فُحش من الكبائِر خُصُوصاً {إِلاَّ اللمم} أي إلا ما قلَّ وصغُرَ فإنَّه مغفورٌ ممَّن يجتنبُ الكبائرَ قيلَ هي النظرةُ والغمزةُ والقبلةُ وقيلَ هي الخطرةُ من الذنبِ وقيلَ كلُّ ذنبٍ لم يذكرِ الله عليهِ حدَّاً ولا عذاباً، وقيلَ عادةُ النفسِ الحينِ بعد الحين والاستثناءُ منقطعٌ {إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة} حيث يغفرُ الصغائرَ باجتنابِ الكبائرِ، فالجملةُ تعليلٌ لاستثناءِ اللممِ وتنبيهٌ على أنَّ إخراجَهُ عن حُكمِ المؤاخذةِ به ليسَ لخلوهِ عن الذنبِ في نفسِه بل لسَعةِ المغفرةِ الربانَّيةِ وقيلَ المَعْنى له أن يغفرَ لمن يشاءُ من المؤمنينَ ما يشاءُ من الذنوبِ صغيرِها وكبيرِها، ولعلَّ تعقيبَ وعيدِ المسيئينَ ووعدِ المحسنينَ بذلكَ حينئذٍ لئلاَّ ييأسَ صاحبُ الكبيرةِ من رحمتِه تعالى ولا يتوهَم وجوبَ العقابِ عليه تعالى.
{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} أي بأحوالِكم يعلمُها {إِذْ أَنشَأَكُمْ} في ضمنِ إنشاءِ أبيكم آدمَ عليهِ السَّلامُ {مّنَ الأرض} إنشاءً إجمالياً حسبَما مرَّ تقريرُه مراراً {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} أي ووقتَ كونِكم أجنةً {فِى بُطُونِ أمهاتكم} على أطوارٍ مختلفةٍ مترتبةٍ لا يخفى عليه حالٌ من أحوالِكم وعملٌ من أعمالِكم التي منْ جُملتِها اللممُ الذي لولا المغفرةُ الواسعةُ لأصابكُم وبالُه فالجملةُ استئنافٌ مقررٌ لما قبلَها والفاءُ في قوله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} لترتيبِ النَّهي عن تزكيةِ النفسِ على ما سبقَ منْ أنَّ عدمَ المؤاخذةِ باللممِ ليسَ لعدمِ كونِه من قبيلِ الذنوبِ بلْ لمحضِ مغفرتِه تعالى مع علمِه بصدورِه عنكُم أي إذَا كانَ الأمرُ كذلكَ فلا تُثنوا عليها بالطهارةِ عن المعاصِي بالكليةِ أو بما يستلزمُها من زكاءِ العملِ ونماءِ الخير بلِ اشكرُوا الله تعالى على فضلهِ ومغفرتِه. {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} المعاصيَ جميعاً، وهو استئنافٌ مقررٌ للنَّهي ومشعرٌ بأنَّ فيهم منْ يتقيها بأسرِها، وقيلَ كانَ ناسٌ يعملونَ أعمالاً حسنةً ثم يقولونَ صلاتُنا وصيامُنا وحجُّنا فنزلتْ وهَذا إذا كانَ بطريقِ الإعجابِ أو الرياءِ فأمَّا منِ اعتقدَ أنَّ ما عملَهُ من الأعمالِ الصالحةِ من الله تعالى وبتوفيقِه وتأييدهِ ولم يقصدْ بهِ التمدحَ لم يكنْ من المزكينَ أنفسَهُم فإن المسرةَ بالطاعةِ طاعةٌ وذكرَهَا شكرٌ.
{أَفَرَأَيْتَ الذي تولى} أي عنِ اتباعِ الحقِّ والثباتِ عليهِ {وأعطى قَلِيلاً} أي شيئاً قليلاً أو إعطاءً قليلاً {وأكدى} أي قطعَ العطاءَ من قولِهم أكدَى الحافرُ إذا بلغَ الكُديةَ أي الصَّلابةَ كالصَّخرةِ فلا يمكنه أنْ يحفرَ قالُوا نزلتْ في الوليدِ بنِ المغيرةَ كانَ يتبعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّره بعضُ المشركينَ، وقالَ له تركتَ دينَ الأشياخِ وضلَّلتَهم فقالَ أخشَى عذابَ الله فضمن أنْ يتحملَ عنه العذابَ إن أعطاهُ بعضَ مالِه فارتدَّ وأعطاهُ بعضَ المشروطِ وبخلَ بالباقِي وقيلَ نزلتْ في العاصِ بنِ وائلٍ السَّهميِّ لما أنَّه كانَ يوافقُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في بعضِ الأمورِ، وقيلَ في أبي جهلٍ كان رُبَّما يوافقُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في بعضِ الأمورِ، وكان يقولُ والله ما يأمرُنا محمدٌ إلا بمكارمِ الأخلاقِ وذلكَ قولُه تعالى: {وأعطى قَلِيلاً وأكدى} والأولُ هو الأشهرُ المناسبُ لما بعدَهُ من قولِه تعالى: {عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى أَمْ} إلخ أي أعندَهُ علمٌ بالأمورِ الغيبيةِ التي منْ جُملتِها تحمّلُ صاحبِه عنه يومَ القيامةِ.

.تفسير الآيات (36- 40):

{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)}
{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى * وإبراهيم الذي وفى} أيْ وفَّر وأتمَّ ما ابتُلي به من الكلماتِ أو أُمرَ به أو بالغَ في الوفاءِ بما عاهدَ الله وتخصيصُه بذلكَ لاحتمالِه ما لم يحتملْهُ غيرُه كالصبرِ على نارِ نمرودَ حتَّى إنه أتاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ حينَ يُلقى في النَّارِ فقالَ ألكَ حاجةٌ فقالَ أمَّا إليكَ فَلاَ وعلى ذبحِ الولدِ ويُروَى أنَّه كانَ يمشِي كلَّ يومٍ فرسخاً يرتادُ ضيفاً فإنْ وافقَهُ أكرمَهُ وإلا نَوَى الصومَ وتقديمُ مُوسى لما أنَّ صحفَهُ التي هي التوراةُ أشهرُ عندَهُم وأكثرُ. {أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى} أي أنهُ لا تحملُ نفسٌ من شأنِها الحملُ حِملَ نفسٍ أُخْرَى على أنَّ «أن» هيَ المخففةُ منَ الثقيلةِ وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ والجملةُ المنفيةُ خبرُها ومحلُّ الجملةُ الجرُّ على أنَّها بدلٌ ممَّا في صحفِ مُوسى أو الرفعُ على أنَّها خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ كأنَّهُ قيلَ: ما في صحفِهما فقيلَ هو أنْ لا تزرُ إلخ والمَعْنى أنَّه لا يُؤاخذُ أحدٌ بذنبِ غيرِه ليتخلصَ الثَّانِي عن عقابةِ ولا يقدحُ في ذلك قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منْ سَنَّ سُنَّةً سيئةً فعليهِ وزرُهَا ووزرُ مَنْ عمِلَ بها إلى يومِ القيامةِ فإنَّ ذلكَ وزرُ الإضلالِ الذي هُو وزرُهُ. وقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} بيانٌ لعدمِ انتفاعِ الإنسانِ بعملِ غيرِه من حيثُ جلبُ النفعِ إليهِ إثرَ بيانِ عدمِ انتفاعِه بهِ منْ حيثُ دفعُ الضررِ عنْهُ، وأما شفاعةُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ واستغفارُ الملائكةِ عليهم السَّلامُ ودعاءُ الأحياءِ للأمواتِ وصدقتُهم عنُهم وغيرُ ذلكَ ممَّا لا يكادُ يُحصَى من الأمورِ النافعةِ للإنسانِ مع أنَّها ليستْ من عملِه قطعاً فحيثُ كان مناطُ منفعةِ كلِّ منهَا عمله الذي هو الإيمانُ والصَّلاحُ ولم يكن لشيءٍ منها نفعٌ مَا بدونِه جُعل النافعُ نفسَ عملِه وإنْ كان بانضمامِ عملِ غيرِه إليهِ وأنْ مخففةٌ كأختِها معطوفةٌ عليهَا وكَذا قوله تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} أي يُعرضُ عليهِ ويكشفُ له يومَ القيامةِ في صحيفتِه وميزانِه من أريتُه الشيءَ.